أيام الوحدة..حادثة الليل..الحلــ4ــقة

مرت ليلتان على سماع أهل القرية ذاك الطلق الناري..وفي ميعاد سهرتهم في القهوة بعد تلك الليلتان وبعدما أنهى الحكواتي حكايته سمعوا كما سمعوا قبل ذلك لكن الطلق هذه المرة استمر عشرة دقائق.. فدب الذعر قلوب الحاضرين واحتبست أنفاسهم.. كبير القرية السيد أبو النور من الأمس في المدينة يقضي شؤونا خاصة وينظر في أمر حكاية الوحدة..الحرس الذين عينهم أبو النور موقوفون عن العمل بقرار من ديوان الرئاسة بحجة بعض التغييرات..الحالة الأمنية في القرية من سيئ لأسوء..

كانت ليلة مفزعة لكل أهالي القرية خاصة وانها ليست المرة الأولى ..يبدو أن الأمر أكبر من كونه طارئ .. بعد صلاة الفجر في المسجد.. استأذن أبو المجد السيد أبو عماد مسؤول ديوان السيد أبو النور في عقد جلسة طارئة حول هذا الأمر خاصة وأن كبير القرية سيغيب أسبوعا كاملا عن القرية ولا يمكن أن يبقى الحال هكذا حتى يرجع.. لا مانع سيد أبو المجد أنت نائب السيد أبو النور وأحد كبار القرية ..كما تشاء وفي الوقت الذي تريد.. عندها تكلم أبو المجد..الآن يارجال..الآن..ولكن كيف ؟ لم ينم أحدنا البارحة يا أبا المجد اتركها بعد صلاة الظهر.. لا يا ابا رمزي لا.. الآن فمثل هذه الأمور تحتاج حسما حاليا ثم ما أدراك أن أحدا سيغمض له جفن وقريتنا ليست في مأمن ..أخشى والله أن يكون الإنجليز قد عاودوا كرة العام الماضي مرة اخرى.. وهذه ليس لنا فيها يد أبدا.. قام وليد أحد الشباب ..لا سيدي أبو المجد..لنا في أكبر يد.. المواجهة والدفاع عن قريتنا..إن كانو هم تركوا لهم البلد كلها فنحن لن نترك شبرا من قريتنا.. فرد عليه.. هذا الأمل فيكم يا وليد..أنتم الشباب حصن قريتنا وأنتك كثيرون ما شاء الله ثم إننا معكم رجال تستندون عليهم.. ولكن لنرى الأمر اولا ثم نقرر ما يكون..

انفض الناس من المسجد واجتمع كبار القرية في دار الضيافة وبدؤوا حوارهم وتشاؤلاتهم عما يكون هذا.. وبعد حوار طويل قدم الشيخ نبيل إقراحا.. أنا أقترح يا رجال أن نعين دورية مراقبة طيلة الليل وليس شرطا أن تكون من العسكر الذين منعوا..بل من الشباب .. لدينا شباب كثر وكفئ لهذا وهم عند الإشارة يفعلون ما نريد.. نعينهم دوريات مراقبة طيلة الليل ثم نظر الأمر ما يكون وعندها نقرر ما نفعل.. صدق والله يا شيخ نبيل هو صواب الرأي والحنكة.. توافقون يارجال.. رفع الجميع يده بالموافقة لكن أبا رمزي قال..أقترح أن تكون طيلة اليوم على فترات متناوبة لنرى إن كان هناك شيئا غريبا أم أن هذا لا يكون إلا في الليل..لو كانوا الإنجليز لما استحيوا أن يفعلوها جهارا نهارا يا أبا المجد الأمر فهم قوم لا يعرفون الحياء أبدا..ما في رأسي أكبر من ذلك ولكن دعونا نرى وبعدها نحكم... ماذا تقصد يا أبا رمزي.؟ لا شيئ فقط لنفعل كما قلت وبعدها إن صدق ظني أخبرك بما يجول في رأسي.. فعرض أبو المجد الامر على الحاضرين فوافقوا بالإجماع بل قال أحدهم..عقلية أبي رمزي القضائية متواجدة دائما بين مثل هذه الأمور وقد مرت عليه من أصناف القضايا والحوادث كثير لذلك فرأيه يا سادة ومعذرة لكل ذي رأي هو مقدم على الجميع..أنا أوافق بشدة على ما قال..

انقضت الجلسة ومرت ساعات اليوم..بعث السيد أبو المجد وراء مجموعة كبيرة من شباب القرية ..عشرون شابا تقريبا..أعطى كل واحد منهم سلاحا صغيرا يخفيه في جيبه للضرورة..وعصاة يمسكها بيده .. لو لزم الأمر يستخدم أيهما حسبما يحتاج الموقف.. وقسمهم دوريات من بعد الفجر حتى فجر اليوم التالي كل يوم تعكس الدوريات حتى يعرفوا خبر هذه الحكاية..

ومضى اليوم عاديا لا يقطعه شيء غير هذا الضجيج العادي في القرية..غدا هو الخامس من فبراير.. موعد كلمة الرئيس عبد الناصر ..خطاب الوحدة الذي أعلنوا عنه قبل أيام..

وجا الليل .. دورية الليل تمر بين زقاق القرية وحواريها ..يتنقل الشباب بكل هدوء وتخفي كي لا يشعر أحد بشيء حتى أهل القرية ذاتهم ليعرفوا الأمر ظاهره وما يخفي وراءه..

كان عبد القادر يرافق وليد في هذه الدورية..يسيران سويا..ومن مكان لمكان.. فجأة سمعا صوت صرسخ أنثوي لكنه بصوت مكتوم لا يسمعه إلا القريب من المكان.. أثارت هذه الصرخات المكتومة المتفاوتة زعر وليد وعبد القادر.. وقليل من الوقت وانقطع الصوت.. راحا يبحثان جريا هنا وهناك في الإتجاه الذي جاء من الصوت.. كان عبد القادر يجري ودون أن يشعر..اصطدمت رجله بشيء على الأرض في جانب الطريق فتعثر وسقط..قام مسرعا ليكمل بحثه..وهو يجري انتبه لدم كثير على بنطاله..يا إلهي من أين اتى هذا؟ راح فكره لذاك الشيء الذي اصطدم به فعاد مسرعا.. وجد شيئا مغطى في جانب الطريق..نعم هنا سقطت ما يكون هذا..عجل مذبوح في الطريق.. ثم رفع الغطاء عنه..ليفجع بالداهية الكبرى.. فتاة مجردة من ملابسها بالكامل ودماءه تملأ الطريق.. يا ألهي هذا وجه فادية..ابنة أبي المجد.. أعاد الغطاء على جسدها مرة أخرى وترك وجهها..نعم هي فادية.. يالله..صرخ بصوت عال وقلبه يحترق على فادية تلك الفتاة التي علقت بقلبه منذ سنتين..وبصراخه العالي أيقظ أهالي البيوت القريبة..يا أهل القرية ..يا وليد.. يا ناس يا عالم.. داهية الدواهي..

كان شباب المراقبة في التو عنده وكذلك من سمع من أهل القرية.. فماذا يا ترى يكون الأمر..؟