عشق خلف أسوار الاتهام ( 2 )

الانفصال عن الذات شبح الدراما الدنيوية بين البشر ، ربما تسيطر بعض الأفكار على نفوسنا فتَطمر معانٍ عدة وتخفي في بواطن أرواحنا أشياء لا تخرج إلا حين يستحثها أمر ما.. لنكتشف حينها أننا مرضى بالوهم أو باختفاء الإرادة وضياع الذاتية ، قد يصل الأمر أحيانا إلى انمحاء الشخصية أيضا .

دخلا صالة العرض سويا ، تشابك الكفان واحتدت حرارة الأنفاس .. ارتخاء الأعصاب قد يفرط وقفتها لتصير ممتدة على الأرض لا تستطيع حراكا .. لكنه محكمٌ إمساكها بلين وقوة .. غابت كفها في يده بين لمسات الحنان و الشعور بالأمان ، مع كل لمسة نبض جديد و همس رقيق بين روحين لم تلتقي إحداهما مع صاحبتها إلا قبل دقائق قليلة .

ندرك الحب حين يباغتنا القدر به لا حين نهب نفوسنا له ، هي مستمتعة جدا بدفء كفه الحاني ، ربما تسوقها أسئلة ما بعقلها الباطن للبحث وراء أجوبة سريعة لكل ما حدث ، أتجدين تفسيرا لما أنت فيه الآن ؟ أََوَ كان القدر قد ساقك إلى مشاهدة الفيلم بغية السقوط في كف ذلك الفتى ؟ لكنه ليس سقوطا .. أو أنكِ تسرعتِ في اتخاذ قرارك ، عينك خانتك سريعا لم تفعلي ما كنتِ تقسمين عليه طيلة دهرك ؟ أَوَ تكون شباك الرجال محكمة حد القوة التي تجبرنا على السقوط من اللحظة الأولى ؟ سقوط مرة أخرى .. يا نفس هذه متعة وليست سقطة .

كل ذلك كان في بضع ثوان .. أفاقت على صوته يتحدث بهدوء مع جاره في مقاعد الصالة ( لو تكرمت معلهش معايا بنت عمتي ومش هينفع تقعد بعيد عني لو تتبادلوا الأماكن أكون ممنونك .. ) ، كأنها تسهيلات القدر ، كان متوقعا أن يطول الحديث من أجل المقعد خاصة و أن طلة جاره ذاك لا تنبئ بخير أبدا .. لكنها الآن ستجلس إلى جواره فعلا .

سألته بذكاء الأنثى ( هو انت قلتله بنت عمتك ليه ده انت لسة شايفني حتى ) ، أجابها بذكاء أوسع من الذي تحمله في نفسها ( ما أنا مش هقوله أختي يعني ، و لا انت رأيك ايه ) .. أتبع حديثه ابتسامة رقيقة فهمت منها مغزى كلامه .. استقرا مكانهما .. و بدأ العرض مجددا لاستكمال بقية أحداث القصة .

حيرتها بين المكوث في أحضان الأفكار التي تجمعها به وتحسس كفه واستنشاق أنفاسه أو العودة للتفكير في ماهية القصة المعروضة ، كأنها انسحبت من رداء روحها ولبست رداء روحيا آخر ، حتى نظراتها إلى الشاشة لم تكن بذلك الإمعان الدقيق الذي كان قبل أقل من نصف ساعة ، تلتفت إليه كل حين لتجده يشاركها النظرة مبتسما .. تطأطئ رأسها خجلا و تتصنع عدم الاهتمام وتدير رأسها عنه إلى الشاشة .

لا إرادية وعفوية جعلت للحظة نكهة رائقة .. كسياسة الأطفال تماما براءة خصبة وإحساس دافئ ، هي لم تعرف لنبض القلب إحساسا مثل هذا قبل اليوم .. يختلف كثيرا عن إحساسها بذلك الذي يدّعون أنه ابن عمها ، شتان بين حلاوة النظرات واللحظات الآن وبين ما تعانيه مجرد أن يذكر اسم ابن عمها .. لمرتها الأولى تعرف أن للمغناطيس قوة جذب قوية حينما تختلف الأقطاب .

تتابعت فصول العرض ، مغرمة ذلك البروفيسور أضناها ما هو فيه وما حل بها إثر ضياع الملامح الأصلية في نفس الرجل الذي تحب ، حتى أنه لا يذكر أصلا إن كان يوما عرفها أو أنها مجرد فتاة عابرة قد يكون لها في حياته عدة مواقف و حسب .

مشهد مطول جمع البروفيسور ومغرمته في موقف أبكى الصالة كلها .. قرر ذلك المفصول عن شخصيته الحقيقية أن ينهي ما يراه هراء ( صدقا أنا لا أتذكر شيئا بيننا ، لا أعرف من ذلك الأحمق الذي دفع بك إلي و أوهمك بأني جاهل صغير يمكن أن يخترع الكبار له قصصا يوهموه بصدقها ليعيش معهم فيها متقمصا شخصية البطل الكذاب .. اسمحي لي .. لست أنا ذلك الأبله ) .

انتابها شعور قوي بأن أعيرة البروفيسور النارية تخترق قلب مغرمته تلك كما لو كان الأمر حقيقيا فتسيمها كل ألوان العذاب ، في لحظة شعرت هي أيضا أن كلماته تخترق كيانها كرصاص مندفع لا يدع لها مُطْلِقُهُ مساحة زمنية للهروب أو الاختباء بعيدا عن نيرانه .

فورا جذبت يدها من بين كفيه .. ارتعشت بشدة .. انهمرت دمعات متوالية مع صوت الأنين الذي سمعه قبل فاصل الربع ساعة .. أدرك أنه تأثير المشاهد التي رأتها .. حاول أن يربت على كتفها .. أن يحتضن كفها .. أبعدته بشدة ، تعجب من تغير التعامل بين دقيقة وأخرى .. أخرج مناديله المعطرة .. لم يفكر أن يقترب من عينها كي لا ترده لمرتها الثالثة .. فقط وضعها في يدها .. نظرت له بنصف عين ( و متمسحليش انت ليه .. بتقرف سعادتك ) .. علت فوق حاجبيه علامات تعجب مفرطة .. ألم أقرب كفي منك و أبعدتيه الآن .. الآن رفضتي أن يضم كفي كفك ؟! لم تنتظر كثيرا ، جذبت حقيبتها ، قامت خارجة بسرعة من صالة العرض .. انتبه الجالسون حولهما لما كان لكن المتابعة أخذت الجميع عن التهكم أو التعليق على ما كان .

لحق بها .. يحاول نداءها .. هو إلى الآن لم يعرف اسمها .. لم يأخذ منها وسيلة ملموسة لاتصال مستمر بعد ذلك ، ويحك .. أتكون لحظات مرت هكذا و فقط .. استمر في ملاحقتها حتى التفتت إليه .. سلمته مقصوصة ورق أوقفت بعدها سيارة أجرة و اختفت من أمامه في لحظة .

فتح قصاصة الورق وعينه لم يرفعها عن سيارة الأجرة حتى اختفت تماما ، رقم هاتفها .. لكنها لم تكتب له اسمها بعد ، جيد .. المهم أنها لم تنزعج حد الهروب .. بداية غريبة ولحظات تردد أذهلته .. لكنها كيان أعجبه كل ما فيه بشدة ( مجنونة جدا بس رقيقة قوي ) .

نظر لصالة السينما .. لن أكمل الفيلم بدونها ، ثم قفل سائرا في طريقه ممسكا بورقتها ، مع خطوات قدميه يسترجع عقله تلك اللحظات التي لم تطل أكثر من نصف ساعة أبدا .. استجمعت نفسه دفء روحها حتى كاد قلبه يقتلع من مكانه .. لم ينتبه لشيء حينها سوى أن يعود بالزمن قليلا ليراها .. ليمسك يدها مرة أخرى .. ليشم أنفساها الأنثوية العطرة .. التوت قدمه فجأة وسقط مكانه .. يبدو أن شباك الأنثى هي التي تسقط الرجال فورا دون أدنى تفكير أو حسبة لأي أمر .

يتبع الجزء ( 3 ) .

0 التعليقات:

 
') }else{document.write('') } }