خيالات مختلطة بأفكار مبهمة لا يفسر شيئا منها إلا صورة الأفيش المعروضة في الإعلان ، بعض من الإحساس بالشوق و ربما الإثارة ، هذه هي المرة الأولى التي تحضر فيها فيلما أجنبيا في صالة عرض أجنبية أيضا .. دائما تمر عليها في طريقها ذهابا وإيابا .. أخيرا قررت الدخول خاصة وأن هذه القصة جذبت كثيرا من صديقاتها ومن تعرف ممن هم ليسوا أصلا روادا لصالات السينما العربية أو الأجنبية .. قررت أن تكون إحدى الجالسات الليلة أمام الشاشة العريضة في صفوف السكوت والانتباه أمام الأحداث .
بثيابها الأنيقة ومشيتها الأنثوية الخاصة جدا قطعت طريقها مترجلة تحت قطر المطر الخفيف .. وصلت أمام بناية الصالة .. بحركات عفوية و طريقة لبقة قطعت تذكرة المقعد من نافذة خدمة الجمهور .. طالعت صورة الأفيش مرة أخيرة قبل الدخول .. السادسة إلا خمس دقائق كانت على مقعدها رقم 36 في صالة السينما .
الأداء التمثيلي مع بداية مشاهد الفيلم جذب الجميع للمتابعة في هدوء أشد من صمت قوم خرست أفواههم .. هي شردت بذهنها إلى بواطن الأمور ولم تضع انتباهها إلى الأحداث أيضا ، جعلت تربط بين الممكن والمستحيل ، الواقع والخيال ، البروفيسور الذي وضع نظرية رياضية قلبت موازين الذين وضعوا قبله و فتحت مجالات عدة لحلول كانت معقدة قبل ذلك ، يقع فريسة لانفصام الشخصية .. يحاكي ذاته متوهما أن أناسا حوله يجارونه في حديثه و برد فعل طبيعي يجد أن عليه المتابعة و الرد على تلك الكلمات الصامتة التي لا يسمعها غيره ولا يرى أصحابها سواه .
تعاقبت مشاهد القصة في حبكة قوية جعلتها تزداد اندماجا و ربطا بين ما ترى و ما تعرفه عن أصل هذه الشخصية الحقيقية ، دخلت حالة نفسية مختلطة بين الانبهار بالقوة الأدائية والتوتر الذي تصنعه تصرفات تلك الشخصية و التي يهيئ لها الآن أنها من فرط ذكائها تفجرت أبراج الذكاء في المخ داخلها حتى أضحى صاحبها بهذه الطريقة .
نفسها ليست هادئة أبدا ،.. تلك التي كانت مغرمة بالبروفيسور المريض حركت سواكن روحها.. هو لم يكن يرى لها أي وجود في نفسه ولا حتى في أوقاته كثيرا .. دائما ما يجلس مع أولئك الذين يتوهم وجودهم حوله .. غرامه الخيالي الذي في نفسه بأنثاه التي يتخيلها معه ، أخذه تمام من مغرمته تلك و التي هي الحقيقة الذي ادعى كثيرا أنها الحق الأوحد في حيته .. كانت ملازمة معه طيلة مشواره والآن هو في متاهة مفرطة تبعده عنها .
كل تلك التداخلات و الاشتباكات راحت تهدم بناء القوة في نفسها وهي تبصر حكاية يربطها بالواقع أنها صرت يوما بالفعل ، و إن كانت تغفل فكرة تدخلات كاتب النص السينمائي في أحداث الحكاية .
وسط اندماج المتابعين في الصالة .. أزيز عال تلاه شرار أسكت صوت الشاشة العريضة وأطفأ نورها وأغلق تيار الصالة كلها .. فورا عمل المولد الاحتياطي .. اعتذار مسموع للمتابعين .. ( بإمكانكم العودة بعد ربع ساعة على الأكثر للمتابعة .,. نعتذر عن الخلل المفاجئ ) ، دقائق قليلة و خلت صفوف المتابعين تماما إلا أنها بقيت مستقرة مكانها تعيد انضباط نفسها و تحاول اكتساب قوة تقيمها واقفة بعد كل الارتباكات النفسية التي صنعتها مشاهد القصة وما تلا ذلك من فجعة ختم بها أزيز الكهرباء جلستها .
أخرجت مناديلها الورقية ومرآتها الصغيرة تبصر شحوب وجهها و تمسح الدمعات التي تفر خلسة من عينها ، صوت أنفاسها كان عاليا بعد أن سالت أنفها إثر دمعات عينها و فجعتها تلك ، لم يكن المكان كما تخيلت خاليا من الجميع إلاها .
هو كذلك ما زال جالسا في الجهة اليسرى مقعد 68 ، سمع أناتها الخافتة التي تخرج مع أنفاسها .. تبينها فإذا هي لأنثى ما زالت تجلس هي أيضا في صالة العرض .. تخطى المقاعد التي تفصلهما .. يقترب ليرى أكثر .. حتى لم يبقى فاصلا بينه و بينها سوى مقعدين فقط .. انتبهت واقفة .. ( أي خدمة يا أستاذ ) ، بابتسامة رقيقة مد يده ليصافحها مُتَفَوِها باسمه ( لؤي فؤاد .. مشروع محامي ) .
رمقته بنظرة قوية ثم جذبت حقيبتها بيدها وتخطت المقاعد من الجهة الأخرى حتى صارت عند بوابة الصالة .. قفلت خارجة دون أن ترد له جوابا .. راقبها بعينه حتى لحق بها خارجا .
ابتاع من بقالة قريبة عبوتين من المربطات الباردة وقالبي شيكولاته .. عاد مسرعا حتى لا تختفي عن عينه ، هي تقف على مقربة من الصالة متكئة على حائط .. لحظة و كان إلى جوارها .. فوجئت به يسحب من يدها ذلك الكيس الورقي الذي امتلأ بحبات الفيشار ناطقا بلطف ( بقت بايخة قوي حكاية الفيشار والسينما ) .
حزمت يدها على صدرها حزمة الصلاة .. وضع هو فوقها ما انتقاه هو لها .. ( خدي بالك هيقعوا ) .. لحظة غريبة و موقف جريء من شاب لا تعرفه و لم يسبق لهما أن تقابلا أبدا إلا الآن .. لم تجد في نفسها قوة للرفض .. مع انسياب مفاصلها و ارتباكها أحكمت الإمساك بما أعطاها .. رفعت عينها في خجل زائد .. ترمقه بابتسامه خفيفة .. ( شكرا ) .. ثم خطت بعيدا تقف في مكان آخر .
الصالة الخارجية مزدحمة .. كل الذين كانوا في صالة العرض ينتظرون هم أيضا العودة لإكمال و متابعة الأحداث التي قطعها أزيز تيار الكهرباء المفاجئ ، لم يعجبه حين تحركت لمكان آخر أن يسير خلفها مطبقا سيناريو الأفلام العربية ، بقي مكانه ملتفتا إليها يحكي بلسان عينه الذي ينطق بالنظرات عن رغبة عارمة في التحدث كثيرا إليها .. ابتسامة عريضة شقت وجهها القمري مؤذنة له بالانطلاق .. كأنها تفتح له مسامعها ، فورا اعتدل في وقفته وهم بالسير حينها إليها .
قطع حديث الهوى بينهما نداء من داخل صالة العرض .. ( الآن بإمكانكم العودة لمتابعة مدة العرض نعتذر مرة أخرى ) .. سار نحوها .. خلعت عن يدها ذلك الفرو الذي لبسته لتدفئة كفها .. و سلمته يدها .. حركة جماعية لكل من في المكان .. هي وهو .. دخلا الصالة سويا .
يتبع البقية
4 التعليقات:
كل سنة وانت طيب يا ابراهيم
هو انا تهت شوية في النص
بس حاسة اني عايزة اعرف ايه اللي هيحصل بعد كده.. ولو انها استهبلت يعني ايه تدخل معاه بتاع ايه ده يعني :D
مستنية باقيتها يا ابراهيم
انا مقرتش البست بس اكيد جميل هاقراه وقولك راى
مكنش لازام تتدخل
بس خلينا معاها للاخر
في انتضار الباقي
إرسال تعليق