( بادئ ذي بدء .. ربما تكون الحلقة الأولى مقالية أكثر منها سردا لأحداث .. و هكذا دائما تكون البدايات ، خاصة و أن الثورة في مهدها كانت مجرد أحلام صاغها الناس كلاما على الشبكة الالكترونية )
*** *** *** *** ***
فهمتـكم ، البطال و المحتاج .. و ما إلى غير ذلك من الهرتـلة التي أنهى بها زين العابدين تاريخه العقيم في الأرض الخضراء ، لم أكن حينـها متابعـا جيـدا لأحـداث التغيير في تونس ، و ما كان في ذهني أبدا مصطلح ثورة .. مع أني سمعته عددا من المرات وقتها لكن السمـاع لم يطـابق منطق العقـل عنـدي حينهـا .. كل الذي يتـبادر إلى تفكيري أن ما يحدث سيخمده سياط الجلاد ، و ستنام تونس باكية على جرحها العميق .. ليس هذا من منطق التشاؤم لكن الواقع كله كان يفرض هذه النتيجة على عقولنا ، غير أنه لم يكن مما توقعه أحد شيئا .. و صدمتني المفاجأة ، بل و صدمت العالم بأسره على اختلاف وقعها في النفوس .
ذكرت مصـادر مطلعة أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد غادر البلاد ، قناة الجزيرة تذيع الخبر بنصه هذا ، ابتسامة المذيعة ذات الملامـح العذبة عنصر مهم إضافي جعلني أكمل سماع النبأ إلى نهايته ، يبدو أن ما حسبته خيالا صار أمرا حقيقي .. بن علي تـرك تونس و رحل بلا عـودة ، أصداء هذا النبـأ في الشـارع التونسي خلقـت في نفسـي حماسـة رهيبـة لا أعـرف لها مصدرا ، و لم أعـرف في نفسي جرأة مسبـوقة ؛ خاصة و أن الأوضاع في مصر تختلف كثيرا .. أو ربما لم أكن أعرف ما هي الأحوال التي كانت في تونس لأقيم الأمر بموضوعية .. المهم أنني تحمست بشدة .
علاقتي بالثورة التونسية اقتصرت على أنباء متطايرة لا ترقى إلى المتابعة الدقيقة و المعرفة المتعمقة ، لكن ذلك سرعان ما تغير بعد انتصار الثورة ، من أرشيف الجزيرة الالكتروني عرفت تفاصيل الأحداث التي بدأها بو عزيزي رحمه الله حين أحرق نفسه في الشارع .
مع كل هذه الحماسة لم أكن متفائلا أبدا ، على الفيس بوك بدأت كتابات الناس تختلف ، تحديثات صفحات كثير من الأصدقاء تشابهت إلى حد كبير ، فعلتها تونس 14 يناير و ستفعلها مصر 25 يناير ، حتى التاريخ لم أكن متفائلا به ، مما كتبه الناس حينها " يوم عيدكم سنجعله يوم خيبتكم " و كنت أخشى أن يكون يوم خيبة على مصر كلها يزيد من علو كعب الشرطة على الشعب و يفتح بوابة بلطجة غير مسبوقة من النظام الإجرامي و تبدأ حرب الوجوه المكشوفة .. صراع التفكير الذي يدور بين نفسي و عقلي يزيد من إحباطي .. كيف لهذا الشعب المغيب النائم الفاقد لمعايير الثورة أن يفيق فجأة .. و " يقلب مبارك من ع الكرسي " ؟!
في بيتنا .. نقاشي معهم كان نابعا من هذا الإحباط .. أنا أعرف تماما كيف يتعامل الأمن مع المظاهرات ، أتذكر جيدا ما كنت أراه حين أسيـر فـي مظـاهـرة إخوانيـة في براح الجامعـة .. خصوصا بعد أن تنتهـي المسيـرة و يخـرج من كـانوا فيهـا متفرقين من البوابات .. " بوكسات " و أفـراد الأمن يلحقـون بهـم ، اعتقـالات أو قل اختطـافـات عشوائيـة سريعة تذهب بعشرات منهم إلى حيث يأمر " سعادة البيه " ، و البهوات حينها كانوا كثير ، رجال أمن الدولة لا أعاد الله ليدهم سلطة أبدا ، لذا كنت مستاءً يملأني الخوف و القلق .
السيـناريـو الذي توقعتـه باختصـار أن تتأهـب أجهـزة الأمـن بكل طـاقاتـها كي تدفن المولـود قبل أن يصير شابا و يستعصى أمره عليها ، اتهمني الكثير بالانهزامية و الضعف و الخوف ، لكن ما كان الأمـر ضعفا بقدر ما كان خشيـة من انهيار أسوار البلد أكثر مما هي عليه .
يوم و يوم و أيام .. انفعالات الناس تتزايد و أنا أحاول الانسجام معها لكن لا أستطيع ، التونسيون بدأوا التفاعل مع المصريين على الفيس بوك ، نصائح الخروج للمظاهرات و ما إلى ذلك .. المصريون بالخارج بدأوا أيضا تضامنهم مع أهلهم داخل مصر ، و بدأت أنا انتظار اللحظة التي ستلغى فيها اتصالات شبكة الانترنت تماما عن مصر لنعود إلى العهد الحجري .. أمر بديهي لأنهم كثيرا ما صنعوا مثله على عهد الانتخابات و غيرها من الأمور التي يهتم الناس بها و يدور في شأنها حديث على الانترنت .
لما استمر الحال على هذه الطريقة .. شعرت بخجل من طريقة تفكيري هذه ، ربما لم أكن منسجما حينها مع صيحات الناس التي كانت بالنسبة لتقديري وهمية الحدوث ، و عذري في ذلك ما كانت عليه أحوال نفسي و تضاريس روحي التي باتت قبل هذه الأيام شهرين و أكثر في عناء تداوي جرحا روحيا لم تنطفئ ناره حتى ذلك الحين .
الحب حين يسيطر على فؤاد واحدنا لا يترك مجالا لشيء آخر ، و أنا حينها لم يكن بداخلي سوى آثار قصة حب فشلت في إكمال مراحلها ، و لا فائدة ترجى من قلب أتعبه حب فتاه حتى يُشفى من ألمه .. هكذا كنت مبرجما وقتها .
مصر في ذلك الحين كان وجودها في نفسي مقصور على كونها وطن أحبه .. حبا دون حب ، لم أكن أشعر بما أقرأه من كتابات الأوائل من الذين سبقونا و عاشوا عهد انقلاب 1952 أو انجاز 1973 ، وطنيتهم التي كتبوها كنت أقرأها زيفا و مبالغة و أحلاما خيالية ، و إلا فما تلك الميزة الجبارة التي تنعم بها مصر و تفيض بها على شعبها لنجد أفرادا يتغزلون فيها بهذه الطريقة .
قياساتي لم تكن صحيحة .. أعلم هذا ، فاختلاف الأزمنة خلق اختلافا في ظروف الواقع ، ما كتبوه على عدهم كان حقيقيا في نفوسهم و إن كنا قد لمسنا نحن نتائج تلك الكذبات و الادعاءات الزائفة التي صدح بها عبد الناصر على زمانه و السادات بعد انجازه عبور بارليف ، هذان الرجلان استمدا شعبيتهما من أفعال كانت عظيمة بحق ، و غيبوا عن الناس أفعالهم المشينة الأخرى التي لما مر الزمان و أمسك مبارك زمام الأمور لم يبق لنا نحن الذين أتينا من بعدهم شيئا سوى تلك الأفعال المشينة ( اعتقالات و تعذيب في السجون و فقر و بطالة و غلاء و كبت حريات و اعلام مزيف للحقائق و ما إلى ذلك مما تفاقم بمراحل واسعة في عهد المخلوع ) .. كل هذا و أكثر كان ينسج عباءة الخوف و الانهزامية يوما بعد آخر و يلقي بها على كتفي ، هكذا حتى جاء اليوم المشهود 25 يناير 2011 .
0 التعليقات:
إرسال تعليق