بصورة أو بأخرى..قضى ليلته تلك بعد أن أرقه التفكير..وأقلقه طول السهر.. ليلة حاكى فيها القمر.. بث همومه وآلامه.. كل مشكلة السيد عصام هو ذاك الأمر الذي جاءه على غير انتظار أو حتى حسب حسابه..فجأة وجد نفسه مستشارا يجلس على منصة القضاء..وغدا صباحا يرأس جلسته الأولى لقضية طالت حبالها في المحاكم....قضية حاسمة..ترفع به درجات السلم كاملة أو تهوي به إلى قاع لم يكن هاوٍ إليه لو لم يكن يوما مستشارا.. قضية صفقة لحوم فاسدة لأحد كبار البلد.. وها هي الحيرة تضعه بين فكيها..العدل وهوة النهاية..أو الجور والهاوية..
..وخرجت الشمس من خلف ستار الليل,تشق عباب الظلمة معلنة يوما جديدا هو أشق الأيام على نفس السيد عصام.. قام متثاقلا ,قد شغله التفكير حتى بدت الشمس عروسا في خدرها..وأفاق فجأة بعد أن أذهب الأرق والقلق تركيزه وبعثر جمع أفكاره .. و راح يؤدي فرض ربه وهو يدعو ويلح على الله أن تمر جلسة هذه القضية اليوم على خير..
.. ارتدى السيد عصام ملابسه التي اشتراها بثمن أثقل كاهله..فذاك مجلس يرتقيه ذووه تعلوهم عظمة المنصب التي تبدو في شماخة أنوفهم ..و حسن مظهرهم حسنا مبالغا فيه ..أقله تلك العطور التي تملأ أرجاء المحكمة ليس القاعة فحسب...
كان السيد عصام بين الرهبة والعدل في حيرة.. و نزل من بيته فوجد سيارة قد بعثت بها المحكمة لتكون خاصة به فترة بقائه في منصبه .. ركب السيارة وهو شارد الذهن..وسرعان ما قال له السائق..سيادة المستشار قد وصلنا إلى المحكمة..
انتبه السيد عصام ونزل يقدم خطوة ويتأخر عشرا..وهو يحاكي نفسه.."ما لك يا عصام,لم تعرف الخوف أو التردد طيلة حياتك واليوم وأنت في الخمسين من عمرك تخشى أمرا كهذا.. لا لكنك لم توضع في موقف شر من هذا... أفق يا عصام خير الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر.. ولكن ما العمل ..أتترك كرسيك من أول جلسة لك عليه..وليتها تنتهي هنا.." و فجأة أمسك يده أحد الموجودين بساحة المحكمة فانتبه له..قال الرجل له ..انتبه كدت أن تصطدم بتلك السيدة..فاعتذر وانصرف طالعا لحجرته قبل أن يحين ميعاد الجلسة.
ودقت أجراس التاسعة والنصف صباحا..ودخل منادي المحكمة القاعة المخصصة لجلسة القضية..ونادى بصوته الذي يكرهه المتهمون.."محكمة".. فقام الكل واقفون..
..وحدث عصام نفسه.."جاءت ساعة الصفر يا عصام" ثم دخل القاعة واعتلا المنصة..وقال كما يقول القضاة.."نادي على القضية الأولى.." فنادى منادي المحكمة على قضية غير التي كان ينتظر عصام.. ومرت تلك..ثم أخذت المحكمة استراحتها.. وتابعت جلسات القضايا تباعا..ولم يكن في جدول اليوم تلك القضية التي أطارت النوم من عيني عصام..
تعجب السيد عصام وسأل عن جلست اليوم ألم يكن من ضمنها قضية اللحوم الفاسدة المشهورة التي ضجت لها البلد ..
..علم بعدها أن يدا طولى قد عملت في الموضوع حتى أخرت ميعاد القضية.. تعجب برهة ثم طلب ملف تلك القضية كي يدرسه على مهل ..
انقضى اليوم سريعا..و خرج السيد عصام من المحكمة مرتاحا بعض الشيء وقبل أن يصل باب سيارته..إذ برجلين يقبلان نحوه..تكلم أحدهما:السيد فارس المصري يطلبك إليه الساعة التاسعة مساءً في قصره..وهذا عنوانه أتحب أن تأتيك سيارة خاصة أم تأتي أنت.. وأسرع من البرق جاء الإسم في ذاكرته..لم يكن يتوقع أن ميعاد القضية قد تأجل لأمر كهذا.. رد دون تردد على الرجل..سأكون هناك في الميعاد.. ثم ترك حقيبته مع السائق في السيارة وقال له سأذهب سيرا ..أريد أن اكون وحدي..
راح السيد عصام يسير ويفكر..يحاكي نفسه "يا ترى ما وراء هذه الزيارة هل ما ببالك يا عصام... أهي القصور التي حجارتها من نور تستقبل المخلوقين من طين مثلنا..ربما إذا اضطرت الأمور لذلك..."
وبقي هائما يروح ويجي حتى لف الليل بأجنحته المدينة ..توقف عند أحد الجوامع و بقي فيها حتى دقت أجراس الثامنة والنصف..قام وهم بالذهاب لميعاده ذاك..وما زال التفكير يدور في ذهنه..
..وصل إلى المكان المكتوب في البطاقة ..فوجد سورا عاليا مرصع بحبات من النور وحوله رجال حرس كأنما أنت واقف أمام مبنى شرطة ..وليس قصرا خاصا..
..سار ناحية بوابة ذاك القصر وأعطى البطاقة لرجل الحرس ..وسرعان ما رد له الحارس جوابا:..السيد فارس ينتظر قدومك ..مرحبا أهلا وسهلا..
اصطحب الحارس السيد عصام وهو يسير به من مكان لآخر بين جنبات ساحات القصر الخارجية ..حتى وصل إلى مبنى ليس بالحجم الكبير..ووقف عند مدخله ورفع سماعة هاتف معلق هناك على احدى الجدران..ألو ..أخبر السيد فارس..أن ضيفه قد وصل..وفورا سُمح للسيد عصام بالدخول..
..لم يكن عصام قبل ذلك قد رآى أو حتى سمع بالسيد فارس ..بل هو حتى لا يعرف أن هناك منصيا في البلد كمنصي السيد فارس..
استقبله السيد فارس بحرارة شديدة..وجلس يتسامر معه..من بحر حديث لآخر..ومن موضوع لموضوع..و يتحلل هذا الحديث المشروبات الباردة والساخنة ..حتى دقت أجراس الحادية عشر..ولم يجد السيد عصام أن فارسا هذا حدثه بأمر القضية..فحاول أن يستأذن..لكن السيد فارس قاطعه قائلا.. لم تنته جلستنا بعد سيدي..العشاء في انتظارك.. وصاحبه حتى غرفة الطعام ..مائدة لم ينصب مثلها لا في بيت عصام ولا من يعرف..جلسا على مائدة الطعام..ومازال الحديث مستمرا..ثم فجأة قاطع عصام السيد فارس قائلا.."..وبالنسبة لقضية سيادتكم التي تحت يدي.."فلم يسمح له السيد فارس بالإكمال وقال له ..لكل مقام مقال سيدي وليس هذا مقام القضاء..أنت في ضيافتنا ..فسكت السيد عصام مدهوشا..
أكرمه السيد فارسا إكراما مبالغا فيه في تلك الليلة ..و جاء ميعاد الذهاب..فودع السيد فارس ضيفه ..دون أن يريح له باله بسبب هذه الضيافة..
..لكن السيد عصام فطن لتلك الضيافة..وقرر تلك الليلة أن يرى القشية بعين الحق لا بعين ملأتها ضيافة السد فارس..
مرت الأيام تلو الأيام ..وجاء ميعاد الجلسة التي فوجئ السيد عصام من أوراق القضية أنها الجلسة الأخيرة للنطق بالحكم..أي أن منصبه هذا لم يجئه ليفرح به أبدا..
وأصبح صباح يوم الجلسة..وصل السيد عصام إلى المحكمة وفي حقيبته أوراق القضية..دخل حجرته الخاصة..وفتح الحقيبة فلم يجد بها أوراقه التي يرتب بها منذ أسابيع..واختلط الأمر عليه..التاسعة إلا خمس دقائق والأوراق ليس معه..لم يبق عن الجلسة سوى خمس دقائق..هاتف الشؤون القضائية يدق..ألو مرحبا أن المستشار عصام ... أوراق القضية رقم المحفوظة في خزانتة المحكمة تأتيني حالا.. ودقت أجراس التاسعة..ولأول مرة ينتفض السيد عصام..وجلس على كرسيه على منصة القضاء وهو يقول"..منصة أرق وحيرة وقلق.."
وبدأت الجلسة ..و المدعون والمحامون..وكل أطراف القضية حاضرون...
وقال المستشار عصام كلمته.."..محكمة.." فوقف الجميع.
..بدأت الأفكار تروح وتجيء في رأس السيد عصام..وهو يستمع لكلام هذا ودفاع ذاك.. ومكث يجوب بتفكيره وسط ضوضاء المحكمة..وفجأة هدأت القاعة ..وجاءت اللحظة التي تكلم فيها المستشار عصام ..وبدأ يستجوب الشهود ..
المستشار: أنت عماد رأفت الدسوقي..
عماد: نعم سيدي . المستشار:وتقسم على ما تدلي من شهادة.
عماد :نعم سيدي أقسم.. وأقسم عماد..
المستشار:سؤال يا عماد .. ما الذي تعرفه عن الموضوع بالضبط..
وبدأ عماد يتكلم ويحكي ملابسات القضية وما يعرفه و أدلى بشهادته.. وتلاه الشهود..
..وطرق المستشار بمطرقته..هدوء لو سمحتم.. الحكم بعد المداولة ..
..تعجب الحاضرون وهيئة الدفاع من كلمة المستشار..فالكل كان في انتظار كلمة ..أجلت القضية للموعد كذا..
وطال مكوث المستشارين في لجنة المداولة.. وفجأة خرج السيد المستشار عصام ومعه نائبيه..
صمت الجميع وانتظروا النطق بالحكم..
وبعد برهة ..تكلم السيد المستشار..
"..بعد الإطلاع على أوراق القضية والإستماع لشهادة الشهود ولهيئة الدفاع..وبحضور نائبي السيد فارس المصري ..فقد قررت المحكمة جعل هذه الجلسة الختامية والنطق بالحكم فيها..
..حكمت المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما على السيد فارس المصري لما ثبت عليه من تورطه في صفقة اللحوم الفاسدة..وخمس سنوات أخرى لمحاولته ابتزاز هيئة القضاء برشوة معنوية ..
كما حكمت بالسجن لمدة ... على كل من ... معاوني السيد فارس والمتورطين في القضي.."
رفعت الجلسة..
انقلبت قاعة المحكمة ..وتحفظ الأمن على نائبي السيد فارس..
دخل السيد المستشار حجرة القاعة قافلا من بابها الخلفي عودة لحجرته في المحكمة..
وبينا هو في طريقه وفي وضوح وعلى الملأ ..أطلق مسدس مجهول رصاصة على السيد المستشار..
وقف الجميع في ذهول ..كيف دخل هذا بسلاحة إلى المحكمة..كيف ..ومن وراءه..لكن إجابات هذه الأسئلة تبدو جلية واضحة..
وسقط السيد عصام وشريط الذاكرة يعود به لتلك الليلة التي وضعته بين فكي الحيرة..يتذكر جلسته مع السيد فارس وتلك النظرات التي كانت تعقب كلامه.. ولهجته الحادة أحيانا..
أمسك رجال الأمن بالذي أطلق النار ,ولم يقاوم ..
جاءت سيارة الإسعاف ونقل السيد المستشار للمشفى.. وعلى صفحات الجرائد كان الخبر متصدرا وعلى مطلعها كلها في الصفحة الأولى..
"...سقوط السيد المستشار الجديد صريعا بعد إعلان الحكم في أشهر قضية في المحاكم ..قضية اللحوم الفاسدة المتورط فيها السيد فارس المصري.. بمدة قليلة جدا.. والقاتل لم يقاوم رجال الأمن.."
تمت