ادخلوها بسلام


( 1 )

 لما كان يوم العودة إلى كتيبة الخدمة بعد أن انتهت إجازة الأيام المعدودات ، بات ليلته محاطا بأجواءٍ عائلية يحب نكهتها كثيرا ، ليلة تمضي لينطلق مع فجر الحياة الجديد عائدا إلى الثغر على الحدود.

أخته الصغرى تمازحه دائما " هتجيبلي ايه المرة الجاية م الجيش يا دفعة " ، تقولها ليكمل هو بذات الرد في كل مرة " هجيبلك المشير في شكارة يا خفة " ، و لما يأتي من خدمته إليهم " فين المشير ، و لا جايبلي خرطوش و رصاص حي " ليقول هو كما العادة " الخرطوش ده تجيبيه من بقالة أبو حامض " .

شارفت خدمته على الانتهاء ، لم يبقى له في عالم الزي المموه و السلاح القديم الذي لا يعرف عن حاله شيئا و ما طلب منه يوما أن يستخدمه أصلا إلا شهورٌ ثلاث ، يعد أيامها ساعة بساعة .

ذاكرته بدت في محو ما اختزنته على مدار عام و أكثر ، فما كان في أيامها لا يسره أن يبقى فيها ، من الأفضل أن يمُحى أو حتى يحل في مرتبة عاشرة في درجات الذاكرة و تخلوا درجاتها الأولى لأحلام جديدة يرسمها لمستقبلٍ يختلف عن أيام الخدمة العسكرية تماما في واقع حسنٍ يتمناه .

حقيبته معدة ، زِيّهُ الزيتي و المموه .. بيادته السوداء الثقيلة .. بعض شفرات الحلاقة من نوع " Gillete Vector " لأنه يصدق دعايتها المشابهة للواقع بنسبة ، ومصحف جيب صغير مؤشر قراءته يقف عند سورة الحشر .

تصاعدت أصوات الأذان و تشابكت كلماته بين المؤذنين في مساجد مختلفة ، سفرة السحور لا تزال على حالها بعدما انتهوا من طعامهم ، أخته القائمة بأعمال بيتهم سترفع الصحون و تجليها بعد أن يمضي هو ، لا تريد أن تضيع من الوقت شيء في غير الجلوس معه .

الفراش في غرفة أمه خالٍ .. أين ذهبت أمي ، يرفع صوته مناديا .. ما هي إلا بضع ثوان ليراها جالسة على كرسي أمام بوابة البيت أخذته من مقاعد السفرة المواجهة للمدخل ، يرفع حاجبا و يُبقى آخر .. على خده يرسم ابتسامة " لم تفعليها منذ عام و أكثر إلا في المرة الأولى ، مضى ما مضى و ما هو آت أقلُ كثيرا يا أمي فلا تزيديه بتأخيرٍ يسجله قائد الكتيبة في سجلي " .

انتفضت من مكانها لما سمعت حديثه و أبعدت الكرسي عن الباب خشية أن يزيد عليه يوم فوق أيامه الباقية ، " متتأخرش عليا يا حبيبي ربنا يوفقك ، و بالنسبة لموضوع الجواز متقلقش سيبلي أبوك و أنا هقنعه و هخطبلك اللي تشاور عليها ، ترجعلي بالسلامة يا ضنايا ، استحر و افطر كويس و متقفش في الشمس كتير عشان خاطري " .

انحنى على يدها يقبلها بعد أن خطى نحوها مسرعا ليتلقفه حضنها " متقلقيش يا أمي .. رضاكي و الدعاء يا ست الحبايب " ، ألقى السلام و هو يغلق الباب خلفه .

( 2 )

اجتمع مع رفاقه على أول الطريق الذي اعتادوا اللقاء فيه لحظة الانطلاق ، المسافة التي تفصلهم عن كتيبة الخدمة مائتي كيلوا متر ، ليسوا جميعا من سكان العريش ، بعضهم يخرج مبكرا قبل ذلك بيوم ليصل إلى مكان التجمع في ذات الوقت المتفق عليه ، ركبوا سيارة كانت في انتظارهم يعرفون سائقها و يعرفهم ، أمضوا معه على هذا الطريق بهذه الحال سنة و يزيد .

على مقربة من مدينة رفح المصرية تكتفي السيارة إلى هذا الحد ، يكملوا مسيرهم بعد ذلك بناقلة معدة لتوصيل الجنود أماكن خدمتهم داخل المناطق العسكرية .

الحادية عشر بتوقيت القاهرة .. أمضوا في طريقهم ما يربوا على ثلاث ساعات ، تمام الجند مع دقات الثانية عشر ظهرا ، لديهم متسع من الوقت إذاً ، و قبل أن تتم الساعة دورتها كانوا أمام مركز الخدمة ، لتبدأ ممارسة الطقوس العسكرية المملة خصوصا في نهار رمضان .

سجلوا أسماءهم في تمام الحضور ، رفاق ثلاثة كلهم في نقطة حدودية واحدة ، كمين عسكري لا يمر صوبه أحد ، لا يرون خيالا لآدمي سوى هؤلاء الذين يتعاملون معهم .. زملاؤهم و قائد الكتيبة و بعض الضباط .

تمام الرابعة مساء .. الآن حانت ساعة الخدمة ، ثلاثتهم في ذات المكان و لأن علاقتهم بقائدهم حسنة لا يتعمد فصلهم في أماكن مختلفة أو حتى على مسافات متفاوتة ، يتناوبون الوقوف على رأس كل ساعة ، بينما يجلس أحدهم يقف اثنان في مكان الحراسة المباشر ، على مقربة منهم بعض محارس أخرى لا تفصلها مسافات بعيدة هي في نفس المساواة تقريبا على الشريط الأمني ذاته ، في كل منها مثل عددهم يتناوبون هم أيضا .

مضت ساعات النهار واحدة تلو الأخرى يمضونها في مكان الخدمة المباشر أو في الراحة ريثما يأتي دور أحدهم ، هو قبل تمام السادسة كان في راحته ، و لما دق تمام الساعة راح إلى رفاقه يتسلم المكان من أحد الواقفين ليقوم مقامه و يعود الآخر ليبدأ راحته بعد ساعة كاملة من الوقوف .

دقائق قليلة و يرفع المؤذنون نداء الصلاة إيذانا برحيل الشمس و حلول المغيب ، قطع شوكلاته ، مرطبات في حقيبة تمتلأ ثلجا و شيء من المسليات ، بعض ما كان في حقيبته التي جهزتها له أخته الصغرى ليزيد من رفاهية التعيين المخصص في وجبة الإفطار .

قبل مدفع الإفطار ببضع دقائق انطفأت أنوار المكان ، لم يكن الأمر على درجة عالية من الغرابة ، انقطاع التيار ليس جديدا عن أرض مصر هذه الأيام ، ترك مكانه هو و رفيقه الذي يشاركه الخدمة متجهين إلى زميلهم الآخر في مستراحهم ليتأهبوا للإفطار على ضوء هواتفهم المحمولة .

 

( 3 )

لم يهدأ لهذه المرأة بال ، ليس من طبعها أن تدك جيوش القلق الموحش قلبها على ولدها بهذه الطريقة كلما راح إلى خدمته أو حتى تأخر عن موعد إجازته أياما ، هي تعلم دقة الموقع الذي يخدم فيه و تقدر ضوابط العسكرية و أوامرها ، حتى يوم كانت الثورة ما كان قلبها يئن بهذه الدرجة ، مع أن الأمر في التحرير لم يكن آمنا بالقدر الكافي ، لم يكن معه سلاح كما الآن يدفع عن نفسه به أي أذى فما كانت فترة خدمته العسكرية قد بدأت بعد ، مع ذلك لا يفتر شبح القلق عن مزاحمة الراحة في نفسها .

نظرات عيونها تنطق بشيء غريب ، أخته تسأل عن فعلها الذي كان فجرا حين وضعت كرسيا أمام الباب فلا تجيبها بشيء إلا نذر يسير من حديث لا طائل منه و لا معنى يتضح فيه ، و أبوه الذي كان قاسيا في حواره الأخير لما طلب منه أن يخطب له حتى إذا ما انتهت خدمته يبدأ في تجهيزات المسكن و ما إلى ذلك ، لم ينطق ببنت شفة ، كلما رآى القلق النابض في عين زوجته لا يزيد عن قوله " يا رب سلم سلم " .

( 4 )

ضجيج في الخارج ، بقع ضوء تبدو كأنوار سيارة ، قرع و هرج لا يعرفون له مصدرا واضحا ، مسرعين قاموا كزملائهم في مراكز الكمين المحيطة إلى الخارج يستبينوا الأمر حاملين أسلحتهم ، و ما هي إلا لحظة خروجهم إلى المكان حتى رأوا رؤوسا ملثمة الوجوه ، لم تكن أعداد أصحابها بالوضوح الكافي مع ارتفاع مستوى الإضاءة التي تصدرها سيارة تتحرك مسرعة بين مراكز الكمين على امتداد هذا الجزء من الشريط الأمني ، لم يمهلهم القدر بعض دقائق لتدارك الأمر و التعامل معه ، باغتهم الملثمين بقنص مكثف بآليات مريعة و بسرعة تخطت قدرتهم على الاستيعاب .

سقط الثلاثة كلهم فجأة ، و لا يزال القنص مستمرا حولهم و الحال من سيء لأسوأ ، أصوات الهرج عالية و الفعل بمضمونه غير متضح تماما .

هو .. ملقى على الأرض ينزف صدره على يد صاحبه الذي سقط قبله فصار أسفل منه ، يهمس إليه " ما الذي يحدث .. هل أنت بخير ، أين صاحبك ؟! "، و لا يجد ردا لسؤاله .. الدقائق الأولى مع مغيب الشمس ، رحل معها النهار و أرواحهم أيضا ها هي ترحل معه .

صار متيقنا أنه النزع الأخير و الأنفاس الأخيرة في الحياة ، لما هم أن يحملوه إلى سيارة الإسعاف و قد مضى على الحادث أكثر من نصف ساعة انتقلت فيها سيارات الإسعاف و النجدة إلى المكان لم يكن قد فارق الحياة بعد .

الطبيب الذي جاء لينظر في أمره قبل أن يحملوه سمعه يقول " أقرءوا أمي السلام ، قولوا لها الآن عرفت أي باب كنتِ تجلسين أمامه ، إنه باب الجنة يا أمي ، حدثوها أن ربي قد اختار لي حورية يقول لي مَلَكٌ الآن أنها خير مما أتمنى .. قبلوا يدها و اسألوها الرضا و الدعاء " .

جسده الدامي ينتفض ، يسيل الدم من صدره كما لو كان مضخة غزيرة الإنتاج ، رأسه متكئ على يد الطبيب الذي بات يلقنه الشهادة و هو يتابع حديثه المتقطع " قولوا لأعداء الله لن تنالوا من مصر شيئا .. دمي و دماءٌ كثيرة فداء لأرضٍ حماها الله في قرآنه .. قولوا للعالم " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " ، لا تتركوا الأمر يصير بكم إلى ضعف .. هي فرصة للقوة فاغتنموها " .

نظرته الأخيرة كانت لوجه الطبيب " أبلغهم حديثي هذا بلغك الله الشهادة مثلي " ، " أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله " آخر ما نطقه بحروفٍ واضحةٍ صحيحةٍ المخارجٍ و كأن مُصَابَهُ غير كائن .. مالت بعدها رأسه على يد الطبيب ليغمض بكفه الآخر عينا شهيد الحدود .

رفاقه الذين من حوله في ذات المكان و الأماكن المجاورة حالهم تشابه مع حاله ، لما هموا أن يرفعوه على حامل النقل سقط من جيبه كتاب صغير ، مصحفه الذي كان يقرأ فيه قبل ساعات قليلة ، لا يزال مؤشره عند سورة الحشر ، قدره لم يمهله إتمام الختمة الثالثة كما كان يعقد نيته .

( 5 )

مر على الحادث ساعات لم يذكر الإعلام فيها نبأ قصيرا عما جرى ، مضت العشاء و التراويح و بعدها بدأت الأنباء تنتقل عبر فضائية الجزيرة و مواقع التواصل الاجتماعي ، كلها أنباء مكتوبة لا تصحبها صور و لا يؤكدها مصدر مسمى باسم يعرفه الناس .

أخته الصغرى قرأت في صفحات إخبارية على الفيس بوك شيئا مما كان يذاع بين زوار الموقع ، لم يَدُرْ بخلدها أن أمرا ما يرتبط بأخيها ، حوادث الحدود كثيرة بعضها جرى و هو في خدمته و لم يصبه من أذاها شيئا .

هاتف البيت يدق ، كان الرد من نصيب والده ، رفع سماعة الهاتف ليجد على الطرف الآخر شخصا يقول " مستشفى ... حضرتك والد المجند .... " و بعد أن تأكد المتحدث من هوية والده أخبره نبأ الحادث و مقتل ابنه جراء الهجوم المسلح ".

لم يتمالك الرجل نفسه و لم تسعفه قدمٌ ولا أخرى ليستقيم واقفا بعد أن سمع ما قاله ذلك المتحدث ، لحظة صرخت فيها أمه قبل أن تعرف ما نمى إلى علم زوجها من الحديث الكائن في هذه المهاتفة ، و ما هي إلا لحظت حتى تأكد الخبر خاصة بعد أن أذاعت فضائية الجزيرة بيانا مقتضبا لرئيس الجمهورية ينعي فيه شهداء الحدود .

( 6 )

صدمة فقدت معها الأم صوابها ، فلذة كبدها الذي كان بين ذراعيها منذ ساعات تنبض روحه و يتنفس فتستنشق عبق أنفاسه أصبح الآن " ماضي " ، و المضارع الكائن هو نبأ الحادث الذي راح ضحيته هو و كثير من زملاءه بين شهيد و مصاب .

أخته المتفطرة ألما على رحيله كتبت على حسابه الشخصي تقول " شهيد الحق حي في القلوب .. وعند الله علام الغيوب ، دم الشهداء عند الله مسك .. و طيب المسك زاهٍ في الطيوب ، مع الرسل الكرام وتابعيهم .. يعيش شهيدنا - أخي - ما من لغوب ".

* تمت *

* القصة مستوحاة من أحداث الحدود الأخيرة ، بطلها مجند شاب كانت خدمته في الكمين الذي شهد الهجوم المسلح ، تفاصيل الأحداث صنعها خيالي و صاغها قلمي ، رحم الله شهداء الوطن و أخرج مصر من أزمتها على خير .

 
') }else{document.write('') } }